نصوص

هبوط أورفيوس إلى العالم السفلي PDF – تحليل قصيدة تجديد الرؤيا لعبد الوهاب البياتي

صَلَوَاتُ الرِّيحِ فِي آشُورَ، وَالْفَارِسُ فِي دِرْعِ الْحَدِيدْ
دُونَ أَنْ يُهْزَمَ فِي اَلْحَرْبِ، يَمُوتْ
وَيُذْرَى فِي الدَّيَامِيسِ رَمَادًا وَقُشُورْ
تَحْتَ سُورِ اللَّيْلِ وَالثَّوْرُ الْخُرَافِيُّ يَطِيرْ
نَاطِحاً فِي قَرْنِهِ الشَّمْسَ الَّتِي عَلَّقَهَا الْكَاهِنُ فِي سَقْفِ الْوُجُودْ
وَالْمُغَنُّونَ شُهُودْ
وَإِلَى النَّارِ الَّتِي أَوْقَدَهَا الرُّعْيَانُ فِي الْأُفُقِ سُجُودْ.
مُدُنٌ تُولَدُ فِي الْمَنْفَى وَأُخْرَى تَحْتَ قَاعِ الْبَحْرِ أَوْ قَاعٍ
لَيَالِيهَا تَغُورْ
وَيَنَامُ النَّاسُ فِي أَسْحَارِهَا دُونَ قُبُورْ،
كَالْعَصَافِيرِ عَلَى حَائِطِ نُورْ
وَأَنَا أَحْمِلُهُمْ فَوْقَ جَبِينِي مِنْ عُصُورٍ لِعُصُورْ
أَرْتَدِي أَسْمَالَهُمْ، أَنْفُخُ فِي نَايِ الْوُجُودْ
نَزَفَتْ كُلُّ جِرَاحَاتِكَ، حَتَّى الْمَوْتِ، فِي فَجْرِ السُّلَالَاتِ وَفِي عَصْرِ الْجَلِيدْ.
فَلِمَاذَا أَنْتَ فِي الْكَهْفِ وَحِيدْ ؟
تَرْسُمُ الثَّوْرَ الْخُرَافِيَّ عَلَى الْجُدْرَانِ بِالنَّارِ، وَتَلْتَفُّ بِأَسْمَالِ الشَّرِيدْ
حَامِلاً خُصْلَةَ شَعْرِ الشَّمْسِ تَبْكِيهَا وَتَبْكِي اَلْمُسْتَحِيلْ
حَالِماً عَبْرَ اللَّيَالِي بِالرَّحِيلْ
وَبِشُطْآنِ عُصُورٍ يُولَدُ الْإِنْسَانُ فِيهَا مِنْ جَدِيدْ
وَلِمَاذَا أَنْتَ فِي الْمَنْفَى مَعَ الْمَوْتِ وَأَوْرَاقِ الْخَرِيفْ ؟
تَرْتَدِي أَسْمَالَهُمْ، تُبْعَثُ فِي كُلِّ الْعُصُورْ
بَاحِثاً فِي كُوَمِ الْقَشِّ عَنِ الْإِبْرَةِ، مَحْمُوماً، طَرِيدْ.
تَاجُكَ : الشَّوْكُ ، وَنَعْلَاكَ : الْجَلِيدْ،
عَبَثاً تَصْرُخُ، فَاللَّيْلُ طَوِيلْ
وَخُطَا سَاعَاتِهِ فِي مُدُنِ النَّمْلِ حَرِيقْ
كُلَّمَا نَادَتْكَ عُشْتَارُ مِنَ الْقَبْرِ وَمَدَّتْ يَدَهَا، ذَابَ الْجَلِيدْ.
وَانْطَوَتْ فِي لَحْظَةٍ كُلُّ الْعُصُورْ
وَإِذَا بِاللَّيْلِ يَنْهَارُ، وَتَنْهَارُ السُّدُودْ
وَإِذَا بِالْمَيِّتِ اَلْمُدْرَجِ فِي أَكْفَانِهِ يَصْرُخُ كَالطِّفْلِ اَلْوَلِيدْ
بَعْدَ أَنْ بَارَكَهُ الْكَاهِنُ بِالْخُبْزِ وَبِالْمَاءِ الطَّهُورْ.
آهٍ مَا أَوْحَشَ لَيْلَاتِي عَلَى أَسْوَارِ آشُورَ مَعَ الْمَوْتِ وَأَوْرَاقِ اَلْخَرِيفْ
وَأَنَا أَصْعَدُ مِنْ عَالَمِهَا السُّفْلِيِّ نَحْوَ النُّورِ وَالْفَجْرِ الْبَعِيدْ
مَيِّتاً أُبْعَثُ فِي دِرْعِ الْحَدِيدْ.
أَيُّهَا الثَّوْرُ الْخُرَافِيُّ الَّذِي فَوْقَ دُخَّانِ الْمُدُنِ الْكُبْرَى يَطِيرْ
أَيُّهَا النُّورُ الشَّهِيد،
عَبَثاً تَصْرُخُ، فَالْعَالَمُ فِي اَلْأَشْيَاءِ وَالْأَحْجَارِ وَاللَّحْمِ يَمُوتْ
وَالصَّبَايَا وَالْفَرَاشَاتُ وَبَيْتُ اَلْعَنْكَبُوتْ
وَالْحَضَارَاتُ تَمُوتْ
عَبَثاً تُمْسِكُ خَيْطَ الْفَجْرِ فِي كُلِّ الْعُصُورْ
بَاحِثاً فِي كُوَمِ الْقَشِّ عَنِ الْإِبْرَةِ، مَحْمُوماً، طَرِيدْ.
عبد الوهاب البياتي : الكتابة على الطين.
ج 2 ، دار العودة – بيروت /1972، ص: 428 – 431.

عندما نتحدّث عن التّطور في الشعر العربي الحداثي، فإنّنا في الغالب ما ننتبه إلى الجوانب الشكلية التي تجاوز فيها هذا الشّعر القصيدة العربية التقليدية، وبخاصة منها الجانب الإيقاعي، غير أنّ الواقع الحقيقي الذي ميّز هذا الشعر ليس هو الجانب الشكلي، ولكنه ما يُعرف عند الشعراء بالرؤيا الشعرية؛ وهي نظرة الشاعر إلى القضايا التي تحيط به وبأمّته وبمحيطه عموما، حيث لم تقم الحركة الشعرية الحداثية على مفهوم تكسير البنية فحسب، ولكنها تأسست على شقّ ثانٍ أهم وهو ما يعرف بتجديد الرؤيا؛ فالشاعر يجب أن يمتلك رؤيا خاصة للقضايا المحيطة به وبمجتمعه، والشاعر عبد الوهاب البياتي من الشعراء الذين اكتسبوا هذه الرؤيا وعبّروا عنها في أشعارهم وخاصة في مسألة الموت والبعث التي انطلق منها كَفِكْرة ليصل إلى حلم الانبعاث من قوقعة التّخلف والهزائم التي فرضت على الواقع العربي.



ولد الشاعر العراقي عبد الوهاب البياتي عام 1926م، درس ببغداد لمتابعة تعليمه الثانوي، ثم التحق بدار المعلمين العليا، اشتغل بالتعليم والصحافة، كما تقلد بعض المناصب الدبلوماسية. ونظرا لعمله السياسي فقد تعرض لبعض المضايقات مما جعله يتنقل بين عدد من العواصم العالمية، توفي سنة 1999م. من مؤلفاته: ”أباريق مهشمة“، ”المجد للأطفال والزيتون“، ”أشعار في المنفى“، ”الذي يأتي ولا يأتي“…

قصيدة من الشعر الحرّ، تتميز بنظام السّطر الشعري ووحدة التفعيلة وتنوع القوافي وأحرف الروي.

يحيل العنوان على الشاعر الأسطوري أورفيوس الذي استطاع بفنّه وغنائه أن يحصل على إِذْنٍ من كبير الآلهة ”زيوس“ لإنقاذ زوجته من العالم السفلي، بشرط أن يمشي أوّلا و تسير وراءه دون أن يكون له الحق في النظر خلفه. غير أن أورفيوس خالف هذا الشرط عندما التفت وراءه ليتأكد من وجود زوجته فاختفت على الفور. وبهذه الصيغة يحيل العنوان على ما يؤرق الإنسان في هذه الحياة، وهو طبيعة وجوده وكيفية التخلص من الموت.

نفترض انطلاقا من نوعية النص ومعلومات صاحبه وكذا عنوانه، أنّ الشاعر سيعبّر عن رؤيته الشعرية تجاه الإنسان وقضاياه الوجودية والحضارية.


تعبير الشاعر عن رؤيته الشعرية تجاه الإنسان وقضاياه الوجودية والحضارية.

  • الوحدة الأولى: رسم الشاعر صورة عن الظروف المحيطة بمدينة آشور (وفاة الفارس دون حرب، طيران الثور الخرافي الذي نطح الشمس).
  • الوحدة الثانية: نقل الشاعر الحوار الذي دار بين أورفيوس وعشتار حول الحلم بحياة جديدة ودائمة.
  • الوحدة الثالثة: تأكد الشاعر من فكرة عبثية هذه الحياة وما يتلوها من موت.

العلاقة بين الحقلين: علاقة ترابط وتكامل؛ نظرا لتضافر الطبيعة مع الزمان للتحكم في مصير الإنسان.

لقد وظف الشاعر لغة سهلة متداولة، ركز فيها على الحقل الدلالي الخاص بالطبيعة والحقل الدال على الزمان.

اعتمد الشاعر في هذا النص مجموعة من الوسائل المستحدثة لبناء الصورة الشعرية، كان الغرض منها هو التعبير عن رؤيا شخصية وتجربة خاصة. وقد اتخذ أسطورة أورفيوس قناعا ومرتكزا لهذه الرؤيا، كما أضاف إليها عددا من الرموز مثل: عشتار، الثور الخرافي، الريح، الشمس.

» وكل هذه الوسائل ساعدت على إغناء النص وجعل مضامينه قابلة للتوسع بفضل التأويل.

وقد اعتمد الشاعر أيضا الانزياح كوسيلة من وسائل الصورة الشعرية كما في قوله (صلوات الريح في آشور)، وكذلك (حاملا خصلة شعر الشمس تبكيها)…

» وهذه الوسائل تسمح أيضا بالتأويل وإثراء معاني النص.

غير أن توظيف الشاعر لهذه الوسائل المستحدثة لم يمنع من اعتماد الوسائل التقليدية كـالتشبيه (كالعصافير على حائط نور…) والاستعارة ( وبشطآن عصور)…

اعتمد الشاعر نظام الأسطر الشعرية المختلفة من حيث الطول والقِصر باختلاف حالات الدفقة الشعورية للشاعر، وقد استخدم الوحدة الإيقاعية لبحر الرمل (فاعلاتن)، كما نوّع في استعمال القوافي (/00) (/0/) وأحرف الروي (الدال – الراء – اللام).

قام من خلاله الشاعر بتكرار بعض الكلمات (الشمس، النور) والجمل (عبثا تصرخ، في كل العصور) والأصوات (س، ن، د)، وتكرار بعض المدود الصوتية.

ركّز الشاعر على الجمل الخبرية التقريرية التي توافقت وطبيعة الحكي الموجودة في النص، ولكن ذلك لم يمنعه من اعتماد عدد من الأساليب الإنشائية كأسلوب الاستفهام (فلماذا أنت في الكهف وحيد ؟) والتعجب (ما أوحش ليلاتي !) والنداء (أيها الثور الخرافي).

» وهذه الأساليب تسمح أيضا بالتأويل وإثراء معاني النص.

كما أنه زاوج كذلك بين الجمل الاسمية التي استخدمها في عمليات الوصف، والفعلية التي تدل على الحركة والفعل والحدث.


لقد تميّز هذا النص بمجموعة من مظاهر تكسير البنية من حيث اللغة والصورة الشعرية والبنية الإيقاعية. غير أنّ الأهم من ذلك هو تعبيره عن رؤيا شعرية استخدم فيها الشاعر مجموعة من الوسائل كالرموز والأساطير، وهي رؤيا عبّر فيها الشاعر عن نظرته للإنسان من حيث كينونته الوجودية والحضارية التي قد تصل به أحيانا إلى التفكير في عبثية هذا الوجود الذي تبدو نهايته حتمية. وإذا نقلنا هذه النظرة إلى الواقع العربي الذي يعيشه الشاعر نستطيع أن نقول بأن الضعف العربي المتواصل يجعل الشاعر يقف عند السؤال الصعب: هل يمكن الحديث عن انبعاث جديد ؟ أ نستطيع أن نحترم كل شروط هذه العودة إلى الحياة أم أننا سنخفق كما أخفق أورفيوس في العودة بزوجته أوريديس إلى الحياة فقط لأنه أراد أن يتأكد من أنها ما تزال تتبعه إلى العالم العلوي ؟

One thought on “هبوط أورفيوس إلى العالم السفلي PDF – تحليل قصيدة تجديد الرؤيا لعبد الوهاب البياتي

  • غير معروف

    اللهم بلغنا رمضان

    Reply

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: هذا المحتوى محمي من النسخ !!