انبعاث الشعر العربي PDF – تحليل نص نظري حول إحياء النموذج
* نص انبعاث الشعر العربي
جاءت حركة انبعاث الشعر العربي مرتبطة بإحياء القديم وبالإطلاع على مذاهب الشعراء القدماء في تناول الأغراض والتعبير عن الـمعاني، وكان من وراء حركة الإحياء وعي بالـماضي ومن وراء هذا الوعي الشعور بأنه مستقر الـمثل الأعلى، وهكذا يجب أن تحفظ الـمراتب في التعليل، لا أن يلقى بها جزافا بحيث تقع كما يتفق لها أن تقع بين السببية أو الـمسببية.
لقد جاءت حركة البعث للشعر العربي على مراحل من التدرج في التحرر من التقليد، فقد انتقل الشعر العربي من طور هو أشبه بالموت، موت المعاني الشعرية في النظم، ونضوب ماء العاطفة والوجدان فيه، واختفاء النزعة الذاتية المميزة لشاعر من شاعر، إلى طور انبعاثه بإحياء المعاني القديمة. فهو بعث بالقياس إلى صورة الشعر العربي القديم. لأن هذا الشعر كان قد بلغ مبلغه من الكمال والقوة في عصور خلت، ثم تحولت عنه الأذواق بدافع الإفراط في التصنع أو طلب التصنيع، ثم قصرت عن فهمه الطباع، وباعدت العهود المتعاقبة بين المشتغلين بالأدب وبين التراث الأدبي السليم، بانتشار العجمة وانحراف السلائق وضعف اللغة وانتكاس سلطان الدولة العربية، وبذلك خمدت الروح القومية والمشاعر الذاتية.
فلما عادت هذه المعاني إلى الظهور بزوال موانعها وتوفر أسبابها من انتعاش الروح القومية وسريان الوعي الديني والالتفات إلى الماضي وإحياء تراثه واجتلاء المعاني الذاتية والوجدانية في الشعر القديم سری نسغ الحياة من جديد في جذور الشعر العربي شيئا فشيئا، على نحو من التدرج والانفتاح، والاقتراب من سلامة الطبع، والبعد عن ممتاثة النظم العروضي الثقيل. وهو بعث أيضا بالقياس إلى الماضي، فمن خلال تقويم الشعر على أساس اعتبار القديم منه مشتق المثل الأعلى في هذا العصر، كان انبعاثه بمثابة حركة إلى الوراء إلا أنه لم يكن بد من أن تكون هذه الحركة سابقة للقيام بالحركة التالية إلى الأمام.
ومنذ بداية سبعينيات القرن التاسع عشر تبدأ مرحلة جديدة في حياة الآداب العربية وتثمر محاولات شعرية جريئة تمهد الطريق أمام شعراء النهضة. وقد قام بهذه المحاولات شعراء أحسوا بضرورة إحياء الصورة القديمة للشعر، ولكنهم لم يقووا على التحليق في أجواء الشعر الصحيح إلا بقدر محدود، فكانت أشعارهم تدل على هذا البعث بتطلعها أكثر مما تدل بمقوماتها الفنية واقتدارها على المحاكاة والمجاراة، كأشعار الساعاتي وصالح مجدي وعبد الله فكري من المصريين وناصيف اليازجي ويوسف الأسير وإبراهيم الأدب من السّوريِّين.
وكان انبعاث الشعر يعني أمراً واحدا، وهو إحياء الصورة القديمة التي كان عليها فحول الشعراء المتقدمين. لكن ما طبيعة هذا الانبعاث، وما خصائصه ؟
وأولی خصائص هذا الانبعاث أنه صحّح مفهوم الشعر لدى الشاعر ولدى الـمجتمع علـى السواء، فقد كـان الشعر قبل فتـرة الانبعاث قد انحط بحكم سوء فهم رسالته أو بحكم فساد مفهومه لدى الشاعـر ومن يتوجه إليه الشاعر بشعره. فاعتبـره هذا وذاك ملهاة وتسلية وفنا من فـنـون الـمغالبة بالكلام فـي صناعة الألفاظ والأوزان، ولا تعرض هذه الآفة إلـى عصر من عصور الأدب إلا أودت بالشعر فـي مهاوي الإسـفـاف والغلو فـي التصنع وتشويه الـمعاني وتكلف الـمحسنات. وقد انطلق الـبارودي فـي ريادته لبعث الشعر الصحيح من تفسير مفهوم الشعر أو تجديد مفهومه أو إحيائه على السواء. وذلك حيـن قدم دیوانه بـمقدمة حدد فيها معنى الشعر، وكيف تحرك وجدانه به. وقصارى القول فـي هذا الفهم أن الشعر عند البارودي فيض وجدان وتألق خيال، وأن اللسان ينفث منه ما يجده من ذلك الفيض أو هذا التألق. وأن رسالة الشعر تهذيب النفس وتنبيه الخواطر واجتلاء الـمكارم. وأن جيده ما كان مؤتلف اللفظ بالـمعنی قریب الـمنزل بعيد الـمرمی، سليما من وصمة التكلف، بريئا من عشوة التعسف.
وثاني هذه الخصائص أن الشعر أزاح عن نفسه على يد البارودي كل ما طمس رواءه من أصباغ الصناعة البديعية، من كلفة التلاعب اللفظي، أو من أوضار التقليد كاقتناص التوريات والتضمينات إلى كتابة التاريخ وتطريز الأعاريض والاحتفاء بضروب البديع. وبذلك قام الشعر من جديد على أسسه القديمة من متانة التركيب وجزالة اللفظ ونصاعة الـمعنی وقوة الجرس.
أما ثالث هذه الخصائص فهو الاقتباس من القديم بأوسع ما تدل عليه كلمة الاقتباس من معان. فقد تغذت حركة هذا الشعر من الشعر القديم لفحول الشعراء وأعلامهم في عصور الازدهار، تأثرت بصورهم الأدبية وبطرائقهم في التعبير والمجاز، وبألفاظهم ومعانيهم في كل باب من أبواب القول وفنون القريض.
ورابع هذه الخصائص هو النزعة البيانية في هذا الشعر، والمقصود بها أن شعراء هذا البعث، وفي مقدمتهم البارودي، استبدلوا الصياغة البيانية من النظم البديعي. فعادوا بالشعر إلى طريقة القدماء وإلى اعتمادهم على المجاز والاستعارة. وعلى هذه الصورة الوصفية المادية أو الملموسة للمعاني عن طريق التشبيه والمجاز.
ونحب أن نؤكد مرة أخرى هنا أن البارودي لم ينهض وحده بحركة البعث الشعري، بل شاركته طائفة من الشعراء عاصروه. وبذلك لم يكن هذا البعث الشعري مصادفة واتفاقا، يفسر بالنبوغ وحده، وإنما كان نتيجة من نتائج حركة الانبعاث القومي والديني، كما فسرنا، ونتيجة أيضا من نتائج الحياة العامة التي كان يحياها العرب في النصف الثاني من القرن التاسع عشر.
محمد الكتاني: الصراع بين القديم والجديد في الأدب العربي الحديث. الجزء الأول. دار الثقافة. ط1. 1982. ص: 247 وما بعدها بتصرف.
* تمهيد حول إحياء النموذج
خلال مرحلة طويلة من الركود والانحطاط بدأت مع سقوط بغداد سنة 656 هـ، لم يستطع الشعر العربي المحافظة على مستواه الفني الذي ميزه في عصور الازدهار السابقة الجاهلي والأموي والعباسي، بل إنه اكتسب صفات التراجع والتخلف والاسفاف من قبيل الافراط في الصّنعة والتكلف وتكرار الموضوعات التافهة واستخدام اللغة الضعيفة. وأمام هذا الوضع المتردي كان لابد من بعث الشعر وإحيائه بحيث تبدأ العملية أساسا بتقليد الشعر العربي القديم من حيث اللغة والأغراض والأساليب الفنية الراقية والمعاني والبناء والإيقاع والصور الفنية، على أن تلي هذه المرحلة مرحلة ثانية تضيف بعض التطوير والتجديد إلى النموذج القديم وتهتم بقضايا العصر الحديث الوطنية منها والتاريخية والاجتماعية. وقد اضطلع بهذه المهمة مجموعة من الشعراء الرواد وعلى رأسهم محمود سامي البارودي وأحمد شوقي ومحمد مهدي الجواهري وعلال الفاسي وغيرهم. ونجحوا إلى حد كبير في محاكاة النموذج الشعري القديم كما نجحوا في التأسيس لمرحلة أساسية من مراحل تطور الشعر العربي الحديث.
* قراءة نص “انبعاث الشعر العربي” PDF
І- ملاحظة نص انبعاث الشعر العربي
1) تأطير النص:
محمد الكتاني: كاتب وناقد مغربي، يعتبر من بين النقاد الذين أسهموا في تطوير المنظور النقدي الذي يعرّف بخصائص شعر إحياء النموذج. وذلك من خلال مجموعة من كتبه النقدية وبالأخص منها: “الصراع بين القديم والجديد في الأدب العربي الحديث”.
2) دلالة العنوان:
يحيل على حركة شعرية دعت إلى إعادة إحياء الشعر العربي القديم، واستلهام ما تميّز به ذلك الشعر من حيث الشكل والمضمون. ولها تسميات أخرى عديدة من قبيل: الاتجاه الكلاسيكي / المذهب الإحيائي / المدرسة التقليدية / خطاب البعث والإحياء…
3) بداية النص ونـهايته:
* ارتباط حركة انبعاث الشعر العربي بإعادة إحياء الشعر العربي القديم، واستلهام ما تميّز به ذلك الشعر من حيث الشكل والمضمون.
* اعتبار حركة البعث الشعري نتيجة من نتائج حركة الانبعاث القومي والديني، وكذا الحياة العامة التي كان يحياها العرب في ق 19.
4) فرضية قراءة النص:
استنادا إلى المشيرات الخارجية (صاحب النص وعنوانه ومصدره) والداخلية (بداية النص ونهايته) السابقة، نفترض أن الكاتب سيعالج في النص قضية إحياء الشعر العربي القديم.
ІІ- فهم نص انبعاث الشعر العربي
أ) القضية العامة الـمطروحة في النص:
الحديث عن حركة انبعاث الشعر.
ب) الأفكار الأساسية الـمكوّنة للقضية:
– التعريف بحركة انبعاث الشعر.
– الأسباب الكامنة وراء ظهور هذه الحركة.
– تاريخ البداية الفعلية لظهور الحركة.
– خصائص حركة انبعاث الشعر.
– نتائج هذه الحركة.
ІІІ- تحليل نص انبعاث الشعر العربي
1- معجم النص:
الحقل الدال على الشعر الجامد | الحقل الدال على الشعر الجيّد |
هو أشبه بالموت / موت المعاني الشعرية في النظم / نضوب ماء العاطفة والوجدان فيه / اختفاء النزعة الذاتية المميزة لشاعر من شاعر / الإفراط في التصنع / قصّرت عن فهمه الطباع / غثاثة النظم العروضي الثقيل / انحط بحكم سوء فهم رسالته… | إحياء المعاني القديمة / بلغ مبلغه من الكمال والقوة / سلامة الطبع / شعراء النهضة / إحياء الصورة القديمة للشعر / الشعر الصحيح / ما كان مؤتلف اللفظ بالمعنى / متانة التركيب / الاقتباس من القديم / فحول الشعراء… |
2- خصائص بناء النص:
يتميز النص من حيث البناء بالانطلاق من العام إلى الخاص أي اعتماد الطريقة الاستنباطية المؤسسة على منطق التسلسل والتدرج. حيث افتتح الكاتب النص بالحديث عن حركة انبعاث الشعر والأسباب الكامنة وراء ظهور هذه الحركة، ثم تاريخ البداية الفعلية لظهور الحركة. لينتقل بعد إذ إلى تحديد خصائص حركة انبعاث الشعر، وانتهى إلى نتائج ظهور هذه الحركة.
3- الأساليب الـمعتمدة في النص:
- الوصف: “…وأن جيّده ما كان مؤتلف اللفظ بالمعنى قريب المنزل بعيد المرمى، سليما من وصمة التكلف…”
- المقارنة: وذلك حين قام الكاتب بإبراز أوجه الاختلاف بين الشعر الجامد (الانحطاط) والشعر الجيّد (النهضة).
- التمثيل: “…من أوضار التقليد كاقتناص التوريات والتضمينات”.
- الاستشهاد: “…أشعار الساعاتي وصالح مجدي وعبد الله فكري من المصريين، وناصيف اليازجي ويوسف الأسير..”
- التعريف: “وقصارى القول من هذا الفهم أن الشعر عند البارودي فيض وجدان وتألق خيال…”
- الإثبات: “ونحب أن نؤكد مرة أخرى هنا أن البارودي…”
- التأكيد: “لقد جاءت حركة البعث للشعر العربي على مراحل من التدرج…”
وتتجلى وظيفة هذه الأساليب في توضيح الأفكار وتبسيطها، وإقناع المتلقي بصحتها وسلامتها.
ІV- تركيب وتقويم نص انبعاث الشعر العربي
نتيجة لما سبق، نستنتج أن النص المدروس يتمحور حول حركة البعث والإحياء، باعتبارها حركة شعرية ساهمت في ظهورها عدة عوامل بداية سبعينيات القرن التاسع عشر، وقد تميّزت هذه الحركة بمجموعة من الخصائص التي أفرزتها فيما بعد عدة نتائج. وللتعبير عن هذه الأفكار، توسّل الكاتب بجهاز مفاهيمي يرتبط بحقلين دلاليين: حقل الشعر الجامد وحقل الشعر الجيّد، كما اعتمد على الطريقة الاستنباطية في عرض القضية المطروحة، إضافة إلى مجموعة من أساليب الحجاج للدفاع عن موقفه الخاص تجاه القضية المعالجة.
وبذلك يكون الكاتب قد تفوق في رسم ملامح ظهور حركة البعث والإحياء في الشعر العربي، وبالتالي في تقديم تصوّر شامل ومتكامل عنها.
meilleurs
شكرا