مؤلفات

تحليل مقطع حول حضور الموت في رواية اللص والكلاب PDF – النموذج التطبيقي ⑦

ما هي تجليات الموت وصور حضوره على مستوى أحداث الرواية ؟ و كيف تتحدد أهميته في توجيه سلوك الشخصيات عامة، والبطل منها على وجه الخصوص ؟ وما طبيعة صلاته وعلاقاته بمختلف القيم والأحاسيس ؟

“مدينة الصمت والحقيقة. ملتقى النجاح والفشل والقاتل والقتيل. مجمع اللصوص والشرطة حيث يرقدون جنبا إلى جنب في سلام لأول وآخر مرة… وبقدر ما يخون الموت الأحياء فستذكر بالقبور الخيانة ثم تذكر الخيانة نبوية وعليش ورؤوف. وأنت نفسك ميت منذ انطلقت الرصاصة العمياء، ولكن عليك أن تطلق مزيدا من الرصاص”.

“اللص والكلاب”: دار الشروق، القاهرة، الطبعة الأولى، 2006، ص: 71.


  • حضور الموت على امتداد أحداث الرواية ووقائعها. ومدى تحديده لسلوك البطل (سعید مهران) وتوجيه علاقاته وصلاته بالشخصيات الأخرى.
  • استخلاص أبرز دلالات الموت وإيحاءاته الرمزية، وتفاعلها مع مختلف القيم والأحاسيس في الرواية بالسلب أو الإيجاب.

يحظى “الموت” -هذه الظاهرة الطبيعية المدمرة والحقيقة الوجودية الملغزة في حياة الكائن الإنسان- بحضور قوي ولافت للنظر على امتداد صفحات رواية “اللص والكلاب” لنجيب محفوظ. وذلك خضوعا لما يعتمل في الرواية من أحداث متشابكة، وشخصيات متصارعة… وما يتولد عن ذلك كله من قيم وأحاسيس مختلفة.

فما هي، إذن، تجليات “الموت” وصور حضوره على مستوى أحداث الرواية ؟ و كيف تتحدد أهميته في توجيه سلوك الشخصيات عامة، والبطل منها على وجه الخصوص ؟ وما طبيعة صلاته وعلاقاته بمختلف القيم والأحاسيس ؟

إذا كانت لحظة الإفراج عن البطل (سعید مهران) من السجن. الذي قضى من وراء قضبانه أربع سنوات من زهرة شبابه نتيجة الغدر والخيانة… هي بداية الرواية، فإن إقراره العزم على الانتقام من الخونة الذين كادوا له وأوقعوا به في قبضة البوليس. هي المحرك الفعلي لما توالى، فيما بعد، من وقائع وأحداث متشابكة ومختلفة… ولن يكون انتقامه، في ضوء هذه الأحوال والتداعيات، من هؤلاء الخصوم والأعداء بالطبع إلا بإعمال القتل ونشر الموت في صفوفهم. فقد «آن للغضب أن ينفجر وأن يحرق، وللخونة أن ييأسوا حتى الموت» (ص: 7)… لذا يقول مهددا: «بهذا المسدس أستطيع أن أصنع أشياء جميلة على شرط ألا يعاكسني القدر. وبه أيضا أستطيع أن أوقظ النيام فهم أصل البلايا، هم خلقوا نبوية وعليش ورؤوف علوان» (ص: 72).

وحتى يتأهب لخوض هذه المغامرة بكامل عدتها (المال، السلاح، عناوين الضحايا… إلخ)، يبادر إلى التربص بابن صاحب مصنع الحلوى (رفيق صديقته المومس”نور”)، في خلوتهما غير البريئة عند مدفن الشهيد في المقبرة بصحراء العباسية ليسطو على ماله وسيارته… مهددا إياهما بالقتل.

كما يتربص لاحقا بالمعلم بياظة لينتزع منه عنوان غريمه (عليش سدرة) الذي هو شريك لهذا المعلم ومعاون له. كما يسلبه بعض ماله أيضا. غير أن الأمور تجري في الرواية بغير ما يتوقعه البطل (سعید مهران). حيث يتورط في جريمة قتل “شعبان حسين” الساكن الجديد في بيت عليش سدره، على سبيل الخطأ، ظنا منه أنه خصمه المطلوب الذي يود تصفيته. لذلك يؤرق مضجعه الشعور بالذنب، وتلاحقه ذكراه الملحّة الضاغطة. ويسوء الأمر أكثر لما يقتل البواب، من قبيل الخطأ أيضا، عوض غريمه الصحفي (رؤوف علوان). فيتضاعف شعوره بالذنب حيال رصاصه الطائش الذي لا يحصد غير الضعفاء الأبرياء من دون موجب حقيق أو منطق… لذلك يقول «… أنا لم أقتل خادم رؤوف علوان، كيف أقتل رجلا لا أعرفه ولا يعرفني ؟ إن خادم رؤوف علوان قتل لأنه بكل بساطة خادم رؤوف علوان. وأمس زارتني روحه فتواریت خجلا ولكنه قال لي ملايين هم الذين يقتلون خطأ وبلا سبب» ( ص: 120).

وفي خضم هذه الأحداث العنيفة والمتلاحقة، واشتداد طوق الحصار من حول البطل. لا يجد هذا الأخير -لطول ملازمته بيت نور- وسيلة لتسلية النفس غير النظر مليا إلى المقبرة وتأمل شؤونها وأحوالها… كما تتداعی ذکریات موت الأب (عم مهران) الكهل الطيب إلى خاطر البطل (سعید مهران)، حيث يقول: «… لا يمر يوم دون أن تستقبل القرافة ضيوفا جددا… الموت في نشاطه الدائب، والمشيعون أحق بالرثاء. يذهبون في جموع باكية، ثم يعودون وهم يجففون الدموع ويتحادثون. وقوة أقوى من الموت نفسه هي التي تقنعهم بالبقاء. هكذا دفن الذاهبون من أهلك. عم مهران الكهل الطيب بواب عمارة الطلبة…» (ص: 88). ومن ثمة لن تخلف هذه الذكرى الأليمة في نفس الطفل الصغير غير الإحساس العميق بالتعاسة والبؤس. اللذين يلفهما لغز الموت بغموضه وهيبته، فيستشعر العجز الفادح أمام قوته وخطره الداهم الذي لا يجد منه مهربا.

وخصوصا لما سارعت الأم إلى اللحاق بزوجها الراحل حسرة وكمدا، وفي هذا يقول السارد: «… وتتابعت أيام كالأحلام ثم اختفى عم مهران الطيب. اختفى الرجل على نحو لم يفهمه الغلام، وبدا الشيخ علي الجنيدي نفسه عاجزا أمام اللغز “يا بؤسك … يا بؤسنا … مات أبوك” هكذا صاحت أمك وهي تصوت… وبكيت فزعا لأنه لم يكن في وسعك أن تفعل شيئا… ثم اختفت أمك وكدت تهلك بسبب مرضها…» (ص: 89).

وإذا كان مرض الأم حافزا للبطل على الجنوح إلى الجريمة وباعثا له على ارتكاب أولى سرقاته. فإن موتها قد فجر ما كان بداخله من تمرد وعنف شدیدین … يقول السارد: «… ودلوه على الطبيب الشهير وهو خارج من غرفة فجرى إليه بجلبابه وصندله صائحا “أمي… الدم” (…) ورطنت الممرضة بلغة لم يفهمها ولكنه شعر بأنها تشارکه بعض مأساته. وغضب غضبة رجل رغم حداثه سنه. صاح محتجا لاعنا. ورمی بمقعد إلى الأرض فأحدث دریا وتطايرت فشرة مسنده (…) وعقب شهر من هذا الحادث ماتت الأم في قصر العيني. وطيلة احتضارها ظلت قابضة على يدك وتأبی أن تحول عنك عينيها. غير أنك في غضون شهر المرض سرقت -لأول مرة- سرقت طالب ريفيا من نزلاء عمارة الطلبة. واتهمك الطالب دون تحقيق وانهال عليك ضربا» (ص: 90).

أما ابنته سناء فذكراها الحزينة التي تقض مضجعه تقترن بدورها بالموت، على غرار غيرها من الذكريات الأليمة، حيث يقول: «… وجفولك يا سناء مؤلم حقا كمنظر القبر. ولا أدري إن كنا سنلتقي مرة أخرى، أين ومتى، ولن يخفق قلبك بحبي في هذه الحياة المليئة بالرصاصات الطائشة. وکالرصاص تطيش رغائب كثيرة في الدنيا مخلفة وراءها سلسلة من الحلقات المحزنة» (ص: 78). كما تحضر هذه الذكرى مجددا لما يستشعر نهایته الوشيكة على نحو فاجع… إذ يقول: «لن يكون الحكم أقسى من جفول سناء. قتلتك قبل المشنقة وعطف الملايين عليك عطف صامت عاجز كأماني الموتى» (ص: 120).

عموما، يحضر “الموت”، في الرواية، سواء أكان طبيعيا (موت الأب والأم). أو في صورة الجريمة والقتل المحققين (شعبان حسين، بواب رؤوف علوان). أو التهديد بالشروع في تنفيذه (ابن صاحب مصنع الحلوى، المعلم بياضة). أو التوق إليه أو التطلع إلى تحقيقه (علیش سدرة، نبوية، رؤوف علوان). أو غير ذلك من الصور الأخرى التي تكتنفها مجموعة من القيم والأحاسيس المختلفة. كالغضب، والقلق، والعنف، والرهبة، والخوف، والصمت، والحقيقة، والغدر، والخيانة، والانتقام، والبؤس، والتعاسة، والجنون، والعبث… إلخ. ومن هنا كان البطل سعید مهران محقا وهو يصف سوء حاله، إذ يقول : «… قضي عليه بلا جدوى، مطارد وسيظل مطاردا إلى آخر لحظة من حياته. وحيد عليه أن يحذر حتى صورته في المرآة، حي بلا حياة كجثة محنطة» (ص: 70).


2 thoughts on “تحليل مقطع حول حضور الموت في رواية اللص والكلاب PDF – النموذج التطبيقي ⑦

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: هذا المحتوى محمي من النسخ !!