مؤلفات

تحليل مقطع حول الرؤية العبثية للوجود في رواية اللص والكلاب PDF – النموذج التطبيقي ⑧

ما هي أبرز المظاهر والمحددات الفكرية والأخلاقية لهذه الرؤية العبثية للوجود ؟ وكيف تنظم وفقها وقائع الرواية ومواقف أبرز شخصياتها المتصارعة أو المتعايشة ؟

“ما أعبث الحياة إن قتلت غدا جزاء قتل رجل لم أعرفه، فلكي يكون للحياة معنى وللموت معنى يجب أن أقتلك. لتكن آخر غضبة أطلقها على شر هذا العالم. كل راقد في القرافة تحت النافذة يؤيدني، ولأترك تفسير اللغز للشيخ على الجنيدي”.

“اللص والكلاب”: دار الشروق، القاهرة، الطبعة الأولى، 2006، ص: 90.


  • خصائص الرؤية العبثية للبطل (سعید مهران) ومظاهرها المتعددة.
  • علاقة هذه الرؤية بمختلف المواقف والقيم الفكرية والأخلاقية، في رواية “اللص والكلاب” لنجيب محفوظ.

يؤطر كثير من أحداث رواية “اللص والكلاب” لنجيب محفوظ نسق فكري وفلسفي خاص، ينم عن رؤية عبثية للوجود. حيث تتصادم أو تتعايش عدد من الوقائع والشخصيات الروائية، كاشفة بذلك عن خليط من القيم والمواقف المتضاربة أو المفاوتة بين الانحطاط والسمو الفكري والأخلاقي.

فما هي، إذن، أبرز المظاهر والمحددات الفكرية والأخلاقية لهذه الرؤية العبثية ؟ وكيف تنظم وفقها وقائع الرواية ومواقف أبرز شخصياتها المتصارعة أو المتعايشة ؟

لقد بدت الرؤية العبثية للبطل (سعيد مهران)، في الرواية، أكثر اكتمالا ورضوحا إثر خروجه من السجن واقتناعه بأهمية وضرورة الانتقام ممن سماهم “الخونة” لرد الاعتبار لنفسه، حيث قضى غدرا أربع سنوات من زهرة عمره وراء القضبان، ولتحقيق ما يتصوره قصاصا أو عدالة غائبة أو مفتقدة في محيطه الاجتماعي ككل. يقول: «… استعن بكل ما أوتيت من دهاء، ولتكن ضربتك قوية كصبرك الطويل وراء الجدران» (ص: 8). ويقول مرة أخرى: «ولكنه -هو- لن ينثني عن عزمه (…) ذلك أن الخيانة بشعة جدا يا أستاذ رؤوف. وتطلع إلى نوافذ البيت ويده قابضة على مسدسه في جيبه. الخيانة بشعة يا عليش. ولكي تصفو الحياة للأحياء يجب اقلاع الخبائث الإجرامية من جذورها» (ص: 60). لقد ضاع ماله الذي حصله من احتراف اللصوصية وسرقة دور الأغنياء وقصورهم. أما زوجته أو بالأحرى طليقته (نبوية) فقد قررت الزواج من معاونه السابق (عليش سدرة). وكذلك ابنته الصغيرة (سناء) فقد جفلت منه لما سعى إلى زيارتها وأعرضت عن لقائه…

هكذا صارت أموره: لا مال، ولا عمل، ولا مستقبل… فلا بيت يأويه، ولا أسرة تحتضن ضياعه ووحدته. ولذلك كله تغيم الرؤية في عين السجين السابق، وتتزاحم أمام ناظريه الصور والمتناقضات التي تؤججها الذكريات المريرة… يقول: «… أشهد أني أكرهك. ونوافذ البيوت المغرية حتى وهي خالية، والجدران المتجهمة المقشفة، وهذه العطفة الغريبة عطفة الصيرفي، الذكرى المظلمة، حيث سرق السارق. وفي غمضة عين انطوى، الويل للخونة (…) تلك الأيام الرائعة التي لا يدري أحد مدى صدقها، فانطبعت آثار العيد والحب والأبوة والجريمة فوق أديم واحد» (ص: 8). لذلك غدت الحياة من منظوره مثالا للاجدوى وغياب أي معنى أو علة للوجود فسقطت وتردت إلى هاوية العبث، وصارت الأحاسيس النبيلة والقيم الإنسانية والأخلاقية: كالحب، والعدالة، والإيمان، والحرية… مجرد كلمات جوفاء لا تجد من جانبه غير السخرية والازدراء كما تعلن عن ذلك، قبل استسلامه، تعليقاته وردوده على قوات البوليس التي حاصرته في نهاية الرواية.

وحتى الذين تعاطفوا مع قضيته من الفقراء والضعفاء وعموم الناس، لم يسلموا من سخرية هذه التعليقات حينما بدت له محدودية إدراكهم وقصور فهمهم لما يتخبط فيه من عذاب ومعاناة، وعجزهم عن مساعدته : «يتحدث عنك ناس كأنك عنترة ولكنهم لا يدرون عذابنا» (ص: 100). ويقول مرة ثانية : «لن يكون الحكم أقسى من جفول سناء. قتلتك قبل المشنقة وعطف الملايين عليك عطف صامت عاجز كأماني الموتی. ألا يغفرون للمسدس خطأه وهو ربهم الأعلى» (ص: 150). ويقول متسائلا مرة أخرى : «الجرائد لسانها أطول من حبل المشنقة، وماذا ينفعك حب الناس إذا أبغضك البوليس ؟» (ص: 92). ولذلك صب البطل جام نقمته وكرهه على الجميع: الأغنياء، القضاة، البوليس، الكلاب…

فالعدالة أو القضاء مثلا في نظره قد بات في صف الخونة يخدم مصالحهم ويدافع عنها، بل والأغرب من ذلك أن ضحاياه من الضعفاء والأبرياء هم وحدهم من يحق لهم الإدلاء بشهاداتهم (لصالحه طبعا !)، حيث يقول : «… ولكن كيف تطمئن على قضاتك وبينك وبينهم خصومة شخصية لا شأن لها بالصالح العام ؟! إنهم أقرب للوغد (رؤوف علوان) ويفصل بينك وبينهم قرن من الزمان. وأنت تطالب بشهادة الضحية. وتؤكد أن الخيانة باتت مؤامرة صامتة…» (ص: 120). وكذلك الشأن بالنسبة للصحافة التي جندت -حسب تصوره- كل أقلامها ومنابرها وأبواقها، بإيعاز من صديقه السابق الصحفي (رؤوف علوان)، لتشن عليه حملاتها وتكيل له الاتهام تلو الاتهام… يقول : «… واتهمته الصحف بالجنون. جنون العظمة والدم. لقد أفقدته خيانة زوجته عقله فهو يطلق النار بلا وعي. ولم يصب رؤوف علوان ولكن البواب المسكين سقط. بريء ضعيف آخر.

لذلك يصل بطل الرواية (سعید مهران)، في مسعاه، إلى الباب المسدود لما يدرك أن الحياة والموت هما معا على السواء في خدمة حفنة من الأغنياء والخونة والانتهازيين. فرصاصاته الطائشة لا تصيب إلا الفقراء والتعساء والأبرياء (شعبان حسين الساكن الجديد في بيت عليش سدره، بواب رؤوف علوان)، وهو ما يفقد عقله ما تبقى له من “صواب” (إن كان ثمة صواب !) … ولا يجعله عرضة للوم ومؤاخذات بعض المتعاطفين مع قضيته فقط… حيث تقول له نور : «… سائق التاكسي دافع عنك بحرارة، ولكنه قال إنك قتلت رجلا ضعيفا بريئا» (ص: 116). بل ومادة لتسلية البعض الآخر وتزجية لأوقات فراغه أيضا… حيث تتابع “نور” قولها له مرة أخرى : «في العوامة التي سهرت فيها قال أحدهم عنك إنك منبه مسل في الملل الراكد» (ص: 117).

وينضاف إلى هذه المفارقات الساخرة، أنه استبدل بعد طول تخبط ومعاناة سجنا بآخر. ذلك أن الإفراج عنه من سجن الحكومة لم يعن إطلاقا معانقته للحرية وتمتيعه بسراح لا مشروط؛ إذ أن تورطه مجددا في الجريمة ومسارعته إلى إطلاق الرصاص على ضحاياه قد جعل منه إنسانا في حكم الحي الميت أو الميت الحي… بحيث بات رهين محبسه في حجرة “نور” لا يفارقها إلا لساعات ليلية معدودة، على سبيل الاحتراس واليقظة، خشية السقوط من جديد في قبضة البوليس…

واستولت عليه بغتة رغبة لا تقاوم في أن يغادر البيت للقيام بجولة في الليل. وانهارت مقاومته كما ينهار بناء آيل للسقوط في ثوان» (ص: 91)، وخاصة لما تضطر صاحبة البيت تحت وطأة ظروف العمل إلى الغياب عن بيتها لوقت طويل… يتساءل سعید مهران : «… ترى أين باتت المرأة ؟ وماذا منعها عن العودة ؟ وإلام يقضى عليه بهذا السجن المنفرد ؟ وقرصه الجوع رغم قلقه وأفكاره، فذهب إلى المطبخ فوجد في الصحاف کسرا من الخبز وفتات لحم عالقة بالعظام وبعضا من البقدونس فأتی عليها في نهم شديد وتمصص العظام ككلب» (ص: 124). وفي ضوء مطاردة قوات الشرطة اللصيقة به وحصار کلابها الخائق، لم يجد بدا من الاستسلام بعد أن انكشف أمره وباتت نهايته نهاية عبثية عند قبور القرافة، بالقرب من بيت نور السابق الذي حل به ساكن جديد. لذلك ما تفك يطلق الرصاص من مسدسه على غير هدى ولا هدف، قبل أن يستسلم بلا مبالاة.

باختصار شديد، يمكن القول إن الرؤية العبثية للبطل (سعید مهران) في الرواية ترتكز على مجموعة من المفارقات الفكرية والأخلاقية التي تتوزع ذاته: کالعدالة والظلم، والحقيقة والزيف، والقوة والعجز، والصواب والخطأ… بحيث تتجاوز هذه الرؤية ذات البطل، إلى ما هو موضوعي لتشمل مختلف مظاهر الحياة في محيطه، بل والوجود ككل.


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: هذا المحتوى محمي من النسخ !!