مؤلفات

تحليل قولة حول المضمون الذاتي في ظاهرة الشعر الحديث PDF – النموذج التطبيقي ②

ما هي مظاهر الـمضمون الذاتي عند شعراء الرابطة القلمية ؟ وكيف يختلف هذا الـمضمون بین تصوراتهم النظرية وتجاربهم الشعرية ؟

“ظاهرة الشعر الحديث”: شركة النشر والتوزيع المدارس، الدار البيضاء، الطبعة الثانية، 2007، ص: 20 (بتصرف).


  • ربط القولة بسياقها العام داخل المؤلف.
  • رصد مظاهر المضمون الذاتي عند شعراء الرابطة القلمية، واختلافه بين التصور النظري والتجربة الشعرية.
  • الإشارة إلى مختلف الوسائل المنهجية والحجاجية والأسلوبية التي اعتمدها الناقد في مقاربة هذه التجربة.

لقد ساهمت مجموعة من العوامل التاريخية والاجتماعية والثقافية في توجيه شعر تيار الرابطة القلمية نحو التعبير عن الذات. فالعامل التاريخي يرتبط بانتشار الوعي القومي الذي أخذ يعكس على الأفراد إحساسا قويا بذواتهم، ورغبة منهم في تأکيد تلك الذوات. والعامل الاجتماعي يتعلق بظروف الهجرة إلى أمريكا التي عمقت في نفوسهم الإحساس بالغربة. حتى أصبح السبيل الوحيد لـمقاومة هذا الإحساس هو الاتجاه الكلي نحو الذات والوجدان. أما العامل الثقافي، فراجع إلى اطلاع أصحاب هذا التيار على الشعر الرومانسي الغربي. الذي استهوی تعطشهم إلى الحرية، وإلى التعبير عن الذات في انفعالاتها الـمختلفة.

إذن، ما هي مظاهر الـمضمون الذاتي عند هؤلاء الشعراء ؟ وكيف يختلف هذا الـمضمون بین تصوراتهم النظرية وتجاربهم الشعرية ؟ وما هي الوسائل الـمنهجية والحجاجية والأسلوية التي اعتمدها الناقد في مقاربة هذه التجربة ؟

لقد وردت القولة السابقة في القسم الأول من الفصل الأول من كتاب “ظاهرة الشعر الحديث”. فبعد حديث الـمجاطي في هذا القسم عن الـمضمون الذاتي عند مدرسة الديوان، انتقل إلى الحديث عن “تيار الرابطة القلمية”. ملاحظا تـمحور الشعر عند ممثلي هذا التيار حول فكرة واحدة، هي أن الشعر وجدان. وإذا كانوا يتقاطعون في هذه الفكرة مع جماعة الديوان، فإنهم يختلفون معهم في سعيهم إلى توسيع مفهوم الوجدان. حتی يشمل الحياة والكون، وليس ذلك غريبا منهم. فقد آمنوا بفكرة وحدة الوجود، وقالوا بوجود روابط خفية تشد الكائن الفرد إلى الكون جملة. وأن من شأن هذه الرابطة أن ترفع من مكانة الفرد. وتقترب به من الذات الإلهية حتى لتصبح العودة إلى الذات عبارة عن تفتح على العالـم بكلياته وجزئياته.

على هذا النحو أحب شعراء الرابطة القلمية أن يفهموا الوجدان، فهو النفس، وهو الحياة، وهو الكون. إلا أن الناقد لـم يحفل كثيرا بهذا الـمفهوم الذي شخصه الفكر وتحمس له النظر. وإنـما تجاوزه إلى مفهوم الوجدان كما صورته تجارب هؤلاء الشعراء. فلم يجد شيئا من ذلك العناق الحميم بين النفس والكون. وإنـما وجد مكانه هروبا من الناس ومن الواقع والحضارة. فقد هرب جبران بأحلامه إلى الغاب، حيث تسير الحياة دون أن يعكر صفوها همّ ولا حزن ولا موت ولا قبور.

على أنّ جبران لـم يهرب إلى الغاب وحده. إذ سرعان ما لحق به صديقه ميخائيل نعيمة، ولكن كان جبران قد آثر حياة الفطرة على تعقد الحضارة. فإن نعيمة انقطع إلى التأمل في نفسه، إيـمانا منه بأن “ملكوت الله في داخل الإنسان”. وأن ليس في الإمكان أبدع مما كان، وأن لا مجال لـمحاولة التحرر من الواقع الفاسد. لأن الصلاح والطلاح شيء واحد، ولأن الوجود دورة عبث يستوي فيها الـموت والحياة. وهو فوق كل ذلك لا يستحق طموحا ولا جهادا. وبـما أن عقول الناس وقلوبهم لا تـملك أن ترتفع في يسر إلى هذا الـمستوى الصوفي من وعي الحياة. فقد ألزم الشاعر نفسه بتجنبهم. مقتنعا أن كل معضلة في الحياة لا تحل إلا عن طريق واحد هو التأمل في الذات.

أما إيليا أبو ماضي، فقد وجد سبيلا آخر لتحقيق هذه الغاية هي الاعتصام بالخيال، أو تجاوز القناعة إلى الخنوع والاستسلام. فإن لـم يصل من ذلك كله إلى شيء، عمد إلى الفرار من الناس. ومن الحضارة كما فعل من قبله جبران ونعيمة. ولقد أضاف نسيب عريضة إلى هذه النغمات نغمة أخرى. هي أن سر الشقاء كان في هبوط النفس من مقامها السامي، إلى درك الحياة الاجتماعية. فتبرم بجماهير الناس كما فعل نعيمة. ولـما لـم يكن في وسعه أن يعود بالنفس إلى مقامها السامي. اكتفى بالخروج إلى الغاب متنكرا للحياة الاجتماعية، وما يكفها من حركة وزحام.

وإذا كان موضوع الذات موضوعا غنيا ومتعبا في تجربة شعراء الرابطة القلمية. فإن الـمجاطي قد اختار في معالجته استراتيجية منهجية وحجاجية وأسلوبية مناسبة. فعلى الـمستوى الـمنهجي اعتمد الناقد الـمنهجين التاريخي والاجتماعي. وذلك من خلال ربط ظهور تيار الرابطة القلمية بالظروف التاريخية والاجتماعية التي عاشها هؤلاء الشعراء. وخاصة انتشار الوعي القومي، والهجرة إلى أمريكا. وعلى الـمستوى التفسيري والحجاجي اعتمد الناقد لتوضيح أفكاره ومحاولة الإقناع بصحتها مجموعة من الوسائل نحددها كالتالي :

  • القياس الاستنباطي: وذلك من خلال الانطلاق من مبدأ عام هو “اتجاه شعراء الرابطة القلمية في تجاربهم إلى التعبير عن الذات”. ثم الانتقال بعد ذلك لتتبع مظاهر هذا التعبير في تجربة كل شاعر.
  • التمثيل: ويعني تفسير الظاهرة بتقديم أمثلة عنها. ونلاحظ هذا بالتحديد عندما يريد الناقد أن يثبت حضور الـمضمون الذاتي عند شعراء هذا التيار. فيلجأ إلى التمثيل لذلك بقصائد من شعرهم، كقصيدة “الـمواكب” لجبران. و”صدى الأجراس” لـميخائيل نعيمة، و”في القفر” لإيليا أبي ماضي، و”مناجاة” لنسيب عريضة…
  • الاستشهاد: وفيه يلجأ الناقد، لدعم موقفه، إلى استحضار آراء بعض الشعراء و النقاد. کجبران خلیل جبران في كتابيه “دمعة وابتسامة” و”البدائع والطرائف”. وميخائيل نعيمة في كتابه “مذكرات الأرقش” ومحمد مندور في كتابه “النقد والنقاد الـمعاصرون”….
  • الـمقارنة: وهي وسيلة تفسيرية وحجاجية تتخذ تارة طابعا شموليا. من خلال إبراز الاتفاق بين تيار الرابطة القلمية وجماعة الديوان في ربط الشعر بالوجدان. أو من خلال إبراز الاختلاف الكبيـر في مفهوم الوجدانـ بين التصور النظري والتعبير الشعري عند شعراء الرابطة. وتتخذ تارة أخرى طابعا جزئيا. من خلال إبراز الاختلاف في طبيعة الحل الذي اختاره كل شاعر للهروب من واقعه. فإذا كان جبران قد وجد هذا الحل في تفضيل حياة الفطرة على تعقد الحضارة. فإن نُعيمة وجد ذلك في التأمل في أعماق التنفس. وعلى عكس ذلك كله وجد أبو ماضي أن الحل الوحيد هو الاعتصام بالخيال.

أما على الـمستوى الأسلوبي، فإن الناقد وظف لغة تقريرية مباشرة، تقوم على سهولة اللفظ، ووضوح الـمعنى. كما أن هذه اللغة تستمد معجمها من ثلاثة حقول دلالية هي: الحقل الأدبي والفني. (شعراء الـمهجر – شعراء الرابطة – الآداب الغربية – الشعر العربي – الاتجاه الرومانسي – الشاعر الوجداني…). والحقل التاريخي-الاجتماعي (الهجرة – الـمجتمع الإنساني الـمتحضر – الواقع الفاسد – الحياة الاجتماعية – الرحلة – الوعي القومي…). والحقل الوجداني (الحس – الـمأساة – الوجدان – الذات – النفس – الحزن – التأمل – الشقاء – اليأس…).

وخلاصة القول، فإن دراسة الـمجاطي لهذا الـموضوع تـميزت بكونها دراسة متكاملة. تجمع بين التصور النظري والـممارسة التطبيقية، مما يجعل منها دراسة علمية موضوعية لا تكتفي بالوصف، وإنـما تدعم ذلك بالتمحيص والتحليل. والاعتماد على الوسائل الـمنهجية والحجاجية والأسلوبية الـمناسبة.


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: هذا المحتوى محمي من النسخ !!