تحليل قولة حول مظاهر التطور الإيقاعي والموسيقي في الشعر PDF – النموذج التطبيقي ⑨
كان لا بد من أن ننتظر التطور الحقيقي للإطار الموسيقي للقصيدة العربية مدة طويلة، استمرت إلى أواخر الأربعينيات من القرن العشرين. فما مظاهر تطور الإطار الموسيقي في الشعر العربي الحديث ؟ وما علاقة هذا الإطار بالحالة النفسية للشاعر ؟
ورد في كـتاب “ظاهرة الشعر الحديث” لأحـمد الـمعداوي-الـمجاطي ما يأتـي:
” على الرغم من كل هذا الذي تحقق للقصيدة الحديثة من تطور، على صعيد اللغة، وعلى صعيد التصوير البياني، فإن أكثر ما لفت أنظار جمهور القراء والدارسين من هذه القصيدة هو أسسها الموسيقية…”.
“ظاهرة الشعر الحديث”: شركة النشر والتوزيع المدارس، الدار البيضاء، الطبعة الثانية، 2007، ص: 228 (بتصرف).
اِنطلق من هذه القولة، واكتب موضوعا متكاملا، تـنجز فيه ما يلـي:
- تأطير القولة ضمن سياقها العام داخل المؤلف.
- رصد مظاهر التطور الإيقاعي والموسيقي في الشعر العربي الحديث.
- الإشارة إلى مختلف الوسائل الحجاجية والأسلوبية التي اعتمدها الناقد في معالجة هذه القضية.
1) مقدمة حول التطور الإيقاعي والموسيقي في الشعر
لقد استطاعت الأوزان العربية التقليدية، بـما تتميز به من خصائص جالية معلومة، أن تبسط نفوذها على نفوس الناس. ومواهب الشعراء، وأذواق النقاد نحو خمسة عشر قرنا. إلى درجة جعلت كل الـمحاولات للخروج من إطارها العام تنتهي إلى الوقوع في جملة من التنويعات للوحدات الإيقاعية لهذا الإطار. دون أن تتمكن من کسر حدته وإرباك نـموذجه الصارم. وبهذا كان لا بد من أن ننتظر التطور الحقيقي للإطار الـموسيقي للقصيدة العربية مدة طويلة. استمرت إلى أواخر الأربعينيات من القرن العشرين.
إذن، ما مظاهر تطور الإطار الـموسيقي في الشعر العربي الحديث ؟ وما علاقة هذا الإطار بالحالة النفسية للشاعر ؟ وما هي الوسائل الحجاجية والأسلوبية التي اعتمدها الناقد في معالجة هذه القضية ؟
2) عرض مظاهر التطور الإيقاعي والموسيقي في الشعر
لقد تناول الـمجاطي الأسس الـموسيقية للشعر العربي الحديث في الفصل الرابع الذي خصصه للشكل الجديد. وذلك بعد أن قام بدراسة الصيغ التعبيرية والصورة البيانية. ولا شك أن أهم ما يـميز الإطار الـموسيقي الجديد، في نظر الناقد، هو تفتيت الوحدة الـموسيقية القديـمة. التي تتمثل في البيت الشعري ذي الشطرين الـمتساويين، واستبداله بالسطر الشعري. الذي يتفاوت في القصيدة طولا وقصرا، تبعا لتفاوت الدفقة الشعورية قوة وضعفا من سطر إلى آخر. فقد تقوى هذه الدفقة الشعورية حتى يتطلب التعبير عنها تسع تفعيلات أو أكثر. وقد تضعف، بحيث يكفي أن يعبّر عنها الشاعر بتفعيلة واحدة.
وتزداد هذه الـميزة أهمية، حينما نلاحظ أن عدد البحور الشعرية الـمستخدمة في الشعر الحديث لا تخرج عن ستة بحور. هي : الهزج، والرمل، والرجز، والكامل، والـمقارب، والـمتدارك. وتنعت هذه البحور بكونها بحورا صافية من خلال قيامها على تكرار تفعيلة واحدة. ورغم محدودية هذه البحور، فإن الشاعر الحديث استطاع أن يستخلص من البحر الواحد عددا هائلا من الأبنية الـموسيقية.
وبالإضافة إلى استعمال البحور الصافية، هناك من الشعراء من استعمل بعض البحور الـمختلطة كالطويل والبسيط. بل مزج بين هذين البحرين في نـموذج واحد، كما فعل بدر شاكر السياب في قصيدتين من دیوانه “شناشيل ابنة الجلبي”. بحيث جعل من تفعيلات البحر الـمختلط وحدة تقوم مقام التفعيلة الواحدة في البحر.
ولـم يقف الأمر عند هذا الحد. وإنـما لجأ بعض الشعراء الـمحدثين إلى تجريب قيم إيقاعية جديدة لتلافي الوقوع في الرتابة الإيقاعية الـمترتبة على تكرار التفعيلة الواحدة. ويـمكن تحديد هذه القيم الإيقاعية فيما يلي :
- استغلال زحاف الخبن الذي استحسنه العروضيون في الرجز. فبدا كما لو أن الشاعر يتعامل مع إيقاعين مختلفين لتفعيلتين لا رابط بينهما.
- تنويع الأضرب، ومثال ذلك ما فعله صلاح عبد الصبور في قصيدته “الخروج”. التي اختلفت فيها الأضرب فجاءت على النسق التالي: فعول، فعولن، مستفعلن، مفاعلان.
- إدماج بحرین متشابهين كالرجز والسريع في بحر واحد كما فعل أدونيس.
- الخروج عن سائر القوانين الـمرسومة للتفعيلة الواحدة من تفعيلات العروض العربي. كما هو الشأن بالنسبة لتفعيلة “الخبب” (فاعلن) التي أصبحت في حشو بعض أبيات الشعر الحديث (فاعل). كما هو الشأن في قصيدة “لعنة الزمان” لنازك الـملائكة.
- الاستغناء عن التدوير وتعويضه بتفعيلة خامسة أو تفعيلة تاسعة.
- اعتبار القافية جزءا من البناء الـموسيقي العام للقصيدة. وإخضاعها لحركة الشعور والفكر بعيدا عن النزعة الهندسية التي ميزت القوالب الـموسيقية التقليدية.
إن معالجة الناقد الـمجاطي لهذا الـموضوع الغني والـمتشعب، قد استدعت اتباع استراتجية تفسيرية وحجاجية وأسلوبية قائـمة على الوسائل التالية :
- القياس الاستنباطي: وفيه انطلق الناقد من فرضية عامة، وهي “حصول تطور في الإطار الـموسيقي القصيدة العربية الحديثة”. ثم انتقل للاستدلال على هذه الفرضية من خلال رصد مظاهر هذا التطور في نـماذج متعددة من الشعر الحديث.
- التمثيل: ويعني الاستدلال على وجود الظاهرة بتقديم أمثلة عنها. ونلاحظ هذا بالأساس عندما يريد الناقد أن يثبت حصول تطور إيقاعي في الشعر الحديث. فيلجأ إلى إيراد أمثلة من هذا الشعر، وخاصة عند عبد الوهاب البياتي في ديوانه “أباريق مهشمة”. وبدر شاكر السياب في ديوانه “شناشيل ابنة الجلبي”، وأدونيس في ديوانه “الـمسرح والـمرايا”. وصلاح عبد الصبور في ديوانه “أحلام الفارس القديم”، ونازك الـملائكة في ديوانها “قرارة الـموجة”. وفواز عيد في ديوانه “أعناق الجياد النافرة”.
- الاستشهاد: وهو وسيلة حجاجية وإقناعية يلجأ إليها الناقد لدعم موقفه والدفاع عن وجهة نظره. وذلك عبر استحضار آراء غيره من الشعراء والنقاد، کالدكتور إحسان عباس في كتابه “عبد الوهاب البيان والشعر العراقي الحديث”. وعز الدين إسماعيل في كتابه “الشعر العربي الـمعاصر”، ونازك الـملائكة في كتاب “قضايا الشعر الـمعاصر”. ومحمد النويهي في كتابه “قضية الشعر الجديد”.
- الـمقارنة: وتبدو من خلال إبراز مواطن الاختلاف بين الإطار الـموسيقي التقليدي باعتباره إطارا صارما وثابتا. وبين الإطار الـموسيقي الجديد الذي يتميز بالـمرونة واتساع مجال الحرية.
وفضلا عن الوسائل السابقة يتعزز الجانب التفسيري والحجاجي بتوظيف الناقد لغة تقريرية مباشرة تتميز بسهولة الألفاظ ووضوح الـمعاني. وتزداد الوظيفة التفسيرية لهذه اللغة حينما يستعمل الناقد من خلالها معجما نقديا يستمد ألفاظه من الحقل الإيقاعي والـموسيقي. مثل : الأوزان، موسيقى الشعر، الوحدات الإيقاعية، الـموشحات، الرباعيات، الخماسيات، الزحافات والعلل، التنغيم الداخلي، أحرف اللين، النبرة، الروي، القافية. التفعيلة، البحور الشعرية، البحور الصافية، البحور الـمختلطة…
3) خاتمة تحليل التطور الإيقاعي والموسيقي في الشعر
وخلاصة القول، إن دراسة الـمجاطي للإطار الإيقاعي والـموسيقي للشعر العربي الحديث، تـميزت بكونها دراسة تفصيلية. لأنها تناولت مجموعة من مظاهر الإيقاع في هذا الشعر. كما أنها دراسة متكاملة من خلال جمعها بين التصور النظري والتعبير الشعري. وهي في الأخير دراسة منهجية من خلال اعتمادها على وسائل تفسيرية وحجاجية وأسلوبية واضحة.
ممكن تلخيص الفصل الثاني