مؤلفات

تحليل قولة حول حضور تجربة الحياة والموت في الشعر الحديث PDF – النموذج التطبيقي ⑥

لقد شكلت تجربة الحياة والموت أهم الـموضوعات التي تمحور حولها الشعر الحديث. فما مضمون هذه التجربة ؟ وكيف تجسدت عند شعراء الحداثة ؟

“ظاهرة الشعر الحديث”: شركة النشر والتوزيع المدارس، الدار البيضاء، الطبعة الثانية، 2007، ص: 90 (بتصرف).



عرف الشعر العربي الحديث مع نهاية الأربعينيات منعطفا مهما تـمثل في نهج شعراء الحداثة لشكل شعري جديد. وقد مثل هذا الشكل رواد بارزون من أمثال : السياب، وصلاح عبد الصبور، والبياني، وأدونيس… على أن التجديد على مستوى الشكل، واكبه تجديد على مستوى الـمضامين أيضا. وذلك استجابة للتحولات الجديدة، التي عرفها الـمجتمع العربي، وفي مقدمتها نكبة فلسطين سنة 1948، وتردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية للمجتمعات العربية. وقد شكلت تجربة الحياة والـموت أهم الـموضوعات التي تـمحور حولها الشعر الحديث.

فما مضمون هذه التجربة ؟ وكيف تجسدت عند شعراء الحداثة ؟ وما هي الوسائل الـمنهجية والحجاجية التي استعان بها الناقد أحمد الـمجاطي لـمقاربة هذه التجربة ؟

وردت القولة السابقة في نهاية الفصل الثالث، وجاءت بـمثابة استنتاج وخلاصة هذا الفصل. الذي تناول فيه الناقد أسباب تبني شعراء الحداثة لهذه الـموضوعة. والتي جعلتهم موقع تجاذب لإيقاعين متناقضين هما: إيقاع الأمل، وإيقاع اليأس. وجعلت نجاح تجربتهم الشعرية رهينا بـمدى إيـمانهم بجدلية الحياة والـموت. وواضح من خلال القولة السابقة أن هذه الجدلية تـمتزج فيها هموم الذات بهموم الجماعة. فالشاعر إنـما يحس بالـموت، انطلاقا من الواقع العربي الذي كانت تغلفه شتى مظاهر الـموت والدمار. وهو عندما يتطلع إلى الحياة والبعث، فإنه يبحث عن حياة الجماعة أكثر مما يبحث عن حياته كفرد.

ويُستنتج من خلال قولة الانطلاق أن الـموت مرتبط أساسا بالـماضي والحاضر، أما الحياة فمرتبطة بالـمستقبل الذي ينتظره الشاعر. لقد آمن الشاعر الحديث أن الحياة لا يـمكنها أن تولد إلا من رحم الـموت. وعمّق هذا الإيـمان وهذه التجربة اطلاعه على الأساطير القديـمة : اليونانية، والفينيقية، والبابلية، والعربية… وهكذا ترددت كثيرا في الشعر العربي الحديث جملة من الأساطير والرموز التي تعكس جدلية الـموت والحياة. من قبيل: أسطورة تـموز وعشتار، وأسورة أورفيوس، وقصة الخضر… إلخ.

ويستفاد من القولة السابقة أن الشاعر قد رصد تجربة الحياة والـموت عند أربعة شعراء، هم: أدونيس، وخليل حاوي، والسياب، والبياتي. وإذا كان الـمقام لا يتسع هنا للوقوف عند تـمظهرات هذه التجربة عند كل الشعراء الأربعة الـمذكورين. فإننا سنكتفي بالوقوف عند تـمظهراتها عند الشاعر عبد الوهاب البياتي فقط.

لقد لاحظ الـمجاطي تأرجح تجربة الحياة والـموت عند البياتي بين منحيين مختلفين هما: منحى الأمل ومنحی اليأس. حيث يتولد اليأس عند هذا الشاعر من مظاهر الانهيار والسقوط، التي انتهى إليها الواقع العربي. في حين يتولد الأمل من رغبة الشاعر في تجاوز هذا الواقع، وخلق واقع جديد. وهكذا رأى الـمجاطي أن جدلية الأمل واليأس عند البياتي تتجاذبها ثلاثة منحنيات:

  • الـمنحنى الأول : فيه انتصار ساحق للحياة على الـموت. وتـمثله الأعمال الشعرية السابقة على ديوان : “الذي يأتي ولا يأتي”. ولا سيما دواوينه : “كلمات لا تـموت”، و”النار والكلمات”، و “سفر الفقر والثورة”.
  • الـمنحنى الثاني : تتكافأ فيه الكفّتان. ويـمثله دیوانه : “الذي يأتي ولا يأتي”.
  • الـمنحنى الثالث : ينتصر فيه الـموت على الحياة. ويـمثله دیوانه : “الـموت في الحياة”.

وهكذا وقف الـمجاطي عند كل منحنى بالدراسة والتفصيل، ممثلا بـما يدل عليه من دواوين الشاعر الـمذكورة. منتهيا إلى أن قدرة البياتي على كشف الواقع، هي مصدر ما في شعره من اهتمام بالـموت. أما اهتمامه بالحياة فنابع من إيـمانه بالثورة، وإصراره على الـمقاومة.

أما فيما يتعلق بالـمنهج الذي اعتمده الناقد الـمجاطي في مقاربته لتجربة الحياة والـموت في الشعر الحديث. فيمكن أن نسجل بداية استناد الناقد إلى الـمنهج الـموضوعاتي. وذلك من خلال تركيزه على الـموضوعات الأساسية التي تـمحورت حولها تجربة الشعر الحديث. وفي مقدمة هذه الـموضوعات تجربة الحياة والـموت، وتجربة الغربة والضياع. كما حضر الـمنهج التاريخي – الاجتماعي من خلال ربط الـمجاطي بين تجربة الحياة والـموات عند الشعراء السابقين. وبين الواقع العربي الذي كان يعاني السقوط والدمار والتخلف في مرحلة تاريخية محددة، هي مرحلة ما بعد النكبة (نكبة فلسطين 1948). كما حضر الـمنهج النفسي من خلال ربط الـمجاطي بين تجربة الـموت والحياة، وبين الـمعاناة التي ولدها الواقع في نفسية الشعراء الأربعة الـمذكورين. خاصة عند حديثه عن خليل حاوي الذي تـمحورت التجربة عنده حول (معاناة الحياة والـموت).

وقد سلك الـمجاطي في رصد هذه التجرية طريقة استقرائية. حيث وجدناه يبتدئ الفصل الثالث الـمخصص لهذه التجربة برصد العوامل التي ساهمت في بلورة هذه التجربة عند الشعراء الـمدروسين. وفي مقدمتها إحساس الشاعر بفداحة واقعه واطلاعه على التراث الأسطوري العالـمي. ثم ينتقل إلى تحليل تـمظهرات هذه التجربة عند الشعراء الـمذكورين، شاعرا شاعرا. قبل أن ينتهي إلى إعطاء تصوره العام الذي عكسته القولة السابقة التي انطلقنا منها. والتي جاءت خاتـمة للفصل الثالث كما سبق.

أما من حيث الوسائل الحجاجية الـمعتمدة في هذا الفصل، فيمكن أن نسجل بداية : أسلوب الـمقارنة. الذي انتهجه الشاعرفي مقارنته بين أربعة تجارب شعرية : أدونيس (التحول عبر الحياة والـموت)، وخليل حاوي (معاناة الحياة والـموت). والسياب (طبيعة الفداء في الـموت)، والبياتي (جدلية الأمل واليأس). يُضاف إلى أسلوب الـمقارنة أسلوب حجاجي حضر بكثافة في الفصل الثالث الـمرصود لهذه التجربة، وهو التمثيل. فالشاعر لا يكاد يذكر تـمظهرا من تـمظهرات تجربة الحياة والـموت عند الشعراء الأربعة حتى يردفه بأبيات لهم. أو قصائد، تدل عليه وتوضحه. ومن هذه الأمثلة إثباته هذه الأبيات للبياتي التي عكست منحى الأمل (الحياة) عنده :

يا قيس يا ولدي
تعلمت الحياة
من موت أحبابي، تعلمت الحياة.

ومن هذه الأمثلة أيضا قول البياتي :

لا بد أن تنهار
روما، وأن تبعث من هذا رماد النار
لا بد أن يولد من هذا الجنين الـميت الثوار

وهكذا ننتهي إلى أن تجربة الـموت والحياة، كانت من أعمق التجارب التي رسخت الحداثة على مستوى الـمضامين عند الشعراء الـمحدثين. فقد استطاع هؤلاء الشعراء بتبنيهم هذه التجربة، تعرية ما في واقعهم من مظاهر التخلف والدمار. وذلك بالقدر نفسه الذي تـمكنوا فيه من التبشير والدعوة لواقع مستقبلي جديد، تنتشر فيه مظاهر الحياة.


One thought on “تحليل قولة حول حضور تجربة الحياة والموت في الشعر الحديث PDF – النموذج التطبيقي ⑥

  • غير معروف

    شرح مبسط

    Reply

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: هذا المحتوى محمي من النسخ !!